الدقة
المراكشية: رحلة عبر الزمن من الجذور إلى العصر الحديث
1.
المقدمة: تعريف الدقة المراكشية وأهميتها الثقافية
الدقة المراكشية
هي أحد أشكال الفنون الشعبية التقليدية التي تنتمي إلى مدينة مراكش المغربية،
وتُعتبر جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي المغربي عامةً والمراكشي خاصةً. وتأتي أهمية
الدقة في كونها تجمع بين الإيقاعات الموسيقية النابضة بالحياة، والحركات الجسدية
التعبيرية، والأهازيج الجماعية، وهذا ما جعل منها فناً جماعياً يعكس روح المجتمع
وتاريخه. وقد ارتبطت الدقة بالاحتفالات والأعياد الدينية والاجتماعية، وتحولت مع
الوقت إلى رمز للهوية المراكشية.
2.
الجذور التاريخية: من أين بدأت الدقة؟
أ ـ الأصول الأمازيغية والعربية:
-
تُعتبر الدقة امتداداً لتقاليد موسيقية ورقصات أمازيغية قديمة، خاصةً في مناطق
الأطلس الكبير حيث تُمارس طقوس مشابهة في الاحتفالات القبلية ، وهناك من ذهب مذهبا
آخر حينما أرجع أصولها الأولى الى بعض قبائل الجنوب خاصة منطقة تارودانت ، الا أن
الواقع يخالف هذا القول باعتبار ان منطقة تارودانت كانت في وفت ما تعتبر ممرا
تجاريا لا غير، ولم تكن منطقة حضارية مأهولة بالسكان.
- ومع دخول الإسلام واختلاط الثقافة العربية بالأمازيغية، تطورت الدقة لتحمل معها عناصر من الشعر العربي والأناشيد الدينية، مثل مدح النبي محمد ﷺ وغيره من الأناشيد الدينية التي ارتبطت عموما ببعض الأعياد والمناسبات.
ب. التأثيرات الداخلية
والخارجية:
-
خلال الفترة المرينية (القرن 13-15م) والتي عرفت هجرة مكثفة من الأندلس الى المغرب
بعد تفكيك الدولة الأندلسية ، وكان لهذا الانتقال تأثير قوي على الموسيقى الشعبية
المغربية بعد انبهارها بالفن الموسيقي الاندلسي ، خاصةً عبر فن "الطرب الأندلسي"، وكباقي
الفنون الموسيقية الأخرى فقد تأثرت الدقة المراكشية هي الأخرى بهذا الوافد الجديد مما
أضفى عليها تغييرا في تحسين آلاتها وتجويد نغماتها لتصبح أكثر تعقيداً.
-
أما خلال الفترة السعدية(القرن 16-17م)، فقد ازدهرت الدقة في عهد السعديين الذين
جعلوا من مراكش عاصمة لهم، وجعلوا من الدقة فنا موسيقيا شعبيا خاصا بهم حيث كانت
تُقام في البلاط الملكي وفي الساحات العامة خلال الأعياد كعيد الفطر والمولد
النبوي وغيرهما من المناسبات .
3. مكونات الدقة المراكشية: الإيقاع والحركة والكلمة
أ. الآلات
الموسيقية: تعتمد
الدقة المراكشية كغيرها من الفنون الشعبية الأخرى على مجموعة من الآلات الايقاعية
لعل أهمها :
ـ الطعريجة (أو التعريجة): هي آلة إيقاع موسيقية مغربية، تصنف ضمن التراث الموسيقي
المغربي. تصنع عادة من الطين والجلد، وتُزيّن بزخرفات مختلفة وتختلف حسب كل منطقة .
وتتميز الطعريجة عن الدربوكة بنوعية الجلد المستعمل في صناعتها وصغر حجمها والزخرفة
التي تزين بها ،
كما أنها تعتبر الآلة الأساس في هذا النوع الفني الموسيقي
ـ البندير (الطار): وهو آلة إيقاعية أساسية مصاحبة
تُصنع من جلد الماعز المشدود على إطار خشبي، وقد يتم الاستغناء عنه في معظم
الأحوال.
ـ القراقش (القضالق): وهي عبارة عن صنوج نحاسية أو حديدية تُستخدم لتعزيز الإيقاع وضبطه أيضا لذلك كانت هذه الآلة غالبا ما تكون من نصيب (المعلم) أي زعيم الفريق.
ب. الرقص
الجماعي:
- تؤدى الدقة في حلقة دائرية (حلقة) حيث يتحرك المشاركون بتناغم مع الإيقاع، ومع هز الأكتاف وحركات الأرجل السريعة، مما يعكس طاقة جماعية متفجرة.
ج. الشعر
والكلام:
-
تعتبر الشعر والكلام جزء من طقوس الدقة المراكشية حيث كانت تُلقى في بداية الدقة أبيات
شعرية أو ما يطلق عليه عند عوام الناس (بالكلام)
وهو عبارة عن كلام منثور يتم نظمه باللهجة المغربية الدارجة، ويكون غالبا موضوع
هذا الكلام عبارة عن تغني بسيرة الرسول (ص)، أو مديح ببعض القيم الاجتماعية أو
الدينية، أو تعبير عن الفرح ببعض المناسبات.
4.
الدقة في السياق الاجتماعي: الوظائف والطقوس
أ. المناسبات
الدينية:
-
تمن الأمور التي ساعدت في استمرارية هذا الفن الشعبي على مر التاريخ هو أن الدقة كانت تُقام في العديد
من المناسبات الدينية وخاصة في بعض الموالد الدينية كالاحتفاء بمولد الرسول
الأعظم، أو احتفالا ببعض صلحاء المدينة تيمنا بهم (كمولد الشيخ سيدي بيلعباس)، اذ
كانت تُعتبر وسيلة للتقرب إلى الله عبر الفن.
ب. الأعراس والاحتفالات:
-
أيضا كانت الدقة ولازالت الى اليوم جزءا لا يتجزأ كفن يتم تقديمه الى الضيوف خاصة في
الأعراس التقليدية، حيث تُستخدم الدقة لإضفاء جو من الفرح والتشجيع على المشاركة
الجماعية لأهل الدار والضيوف معا.
ج. المواسم
الزراعية:
-
وبما أن المجتمع المغربي آنذاك كان مجتمعا فلاحيا، فقد ارتبطت الدقة أيضا بالعديد
من المناسبات الفلاحية كالاحتفال بالحصاد (كموسم حصاد الزيتون أو الحصاد بصفة عامة
)، و كامتنان وشكر لله على الخير والنعم، واحتفالا بنجاح الموسم .
5. التطورات الحديثة: من التقليد إلى الحداثة
أ. تأثير
الاستعمار الفرنسي:
-
أثناء احتلال المغرب خلال القرن العشرين، حاول المستعمر الفرنسي قمع الفنون
المحلية كوسيلة للتضييق على الناس ومنع تجمهرهم واجتماعهم لأن ذلك يساعد على اثارة
القلاقل والفوضى ضدهم، لكن الدقة كغيره من باقي الفنون الشعبية الأخرى استطاعت أن
تصمد في وجه المستعمر كرمز للمقاومة الثقافية الشعبية.
ب. الانتقال إلى
المسرح العالمي:
-
عرف فن الدقة في التسعينيات قفزة جعلته ينتقل الى المسرح العالمي وذلك من خلال بعض الفرق الموسيقة الذائعة الصيت ، حيث بدأت
فرق مثل "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" بدمج إيقاعات الدقة مع
موسيقى الروك والجاز، مما جعلها تحظى بشهرة عالمية وتصبح تراثا انسانيا.
ج. الدقة في
السينما والإعلام:
-
أيضا مما زاد من عالمية الدقة المراكشية ظهورها في أفلام مغربية مثل
"عطيل" للمخرج نوري بوزيد، وفي مهرجانات دولية كمهرجان مراكش للفنون
الشعبية وغيره من المهرجانات العالمية.
6. التحديات والحفاظ على التراث
أ. مخاطر
الاندثار:
-
العولمة: نتيجة
تأثير الموسيقى الغربية على الأجيال الشابة وعدم اهتمامهم بالموروث الشعبي.
-
التحضر: التراجع الكبير الذي طرأ على الممارسات التقليدية في المدن الكبرى
نتيجة التعلق بكل ما هو غربي واعتبارهم أن التخلف الذي نعيشه سببه الكبير هوالتشبت
الحاصل بثراتنا القديم .
والواضح أن
النتيجة كانت شبه كارثية على هذا الفن لأننا لم نعد نرى نفس الأجواء التي كان
يعرفها من قبل، وأصبح فقط مقصورا على فئة
من الشباب جعلوا منه حرفة تدر عليهم الأموال خلال الحفلات والأعراس.
ب. مبادرات
الحفظ: للحفاظ على هذا التراث الشعبي كان لا بد لوزارة
الثقافة المغربية أن تعمل على اتخاذ عدة مبادرات للحفاظ عليه وذلك من خلال :
-
خلق الجمعيات الثقافية المهتمة وتشجيعها مثل
جمعية "أصدقاء الدقة" في مراكش، التي تنظم ورشات لتعليم الشباب وتسهر
على تنظيم مهرجانات في هذا الاطار.
-
التوثيق الأكاديمي وذلك بإجراء دراسات
أنثروبولوجية تسجل تفاصيل الدقة كجزء من التراث الإنساني (اليونسكو)، كما يرجع
الفضل أيضا لجامعة القاضي عياض بمراكش التي شجعت طلبتها على البحث في هذا النوع
الفني خاصة والتراث عامة.
7.
الدقة اليوم: بين الأصالة والابتكار
أ. فرق الدقة
المعاصرة: عرفت
فن الدقة المراكشية نوعا من التطور والابتكار وذلك من خلال المزج الذي عرفه مع بعض
الفنون الموسيقية العالمية واقحام آلات موسيقية جديدة تتماشى معه وذلك بالرغم من
معارضة البعض لذلك، ومن الفرق التي عملت على ذلك نسوق كمثال :
-
فرقة "مراكش إكسبريس" التي قامت بإدماج الدقة مع الإلكترونيكا، بينما استخدمت
فرقة "أمازيغ كاب" تقنيات حديثة في العروض.
ب. الدقة
كجذب سياحي:
-
أيضا يمكن القول بأن اعتبار الدقة المراكشية كوسيلة من وسائل الجذب السياحي كان
عاملا لتعرف نوعا من التطور والابتكار من خلال نوع الآليات التي أصبحت توظفها في
هذا الفن سواء في المهرجانات أو غيرها، ويكفي أن ساحة جامع الفنا في مراكش أصبحت مسرحاً يومياً لعروض الدقة، كوسيلة جذب السيّاح
من كل أنحاء العالم.
ج. مستقبل
الدقة:
-
كان لظهور منصات اليويتوب وغيره من المنصات أثر كبير في انتشار مقاطع الدقة بشكل
واسع وأيضا في تفاعل الناس معها، مما أعاد إحياء الاهتمام بها واعتبارها ارثا عالميا يجب الحفاظ عليه.
8.
الخاتمة: الدقة كمرآة لروح مراكش
أن الدقة
المراكشية ليست مجرد فن، بل هي سرد حي لتاريخ مدينة تتعانق فيها الثقافات، وتتجدد
عبر العصور، كما أنها رمزٌ للفرح الجماعي، وللتحدي في وجه النسيان، ودليلٌ على أن
التراث يمكن أن يكون جسراً بين الماضي والمستقبل.
https://www.youtube.com/watch?v=Wt0X6V7JjCA