تاريخ مدينة : |
بين سنتي
453 و 667 ه (1061 و 1269 م) قامت في المغرب الأقصى دولتان كبيرتان هما
المرابطون والموحدون. وقد كانت كل منهما بربرية الأصل، كما أن كلا منهما
قامت في جنوب البلاد ثم احتلت ما تبقى منها وأضافت إلى أملاكها أجزاء من
شمال إفريقية كما أنها ضمت إسبانية الإسلامية إلى منطقة نفوذها.
والدولتان اتخذتا مدينة مراكش عاصمة لهما. أنشأ المرابطون مراكش ثم وسعوها، ولما جاء الموحدون اهتموا بعمرانها على نطاق واسع. فقد بنى هؤلاء جامع الكتبية ومنارته العالية ومحرابه المتقن الصنع ومقصورته الأنيقة. كما غرسوا حولها الحدائق الغناء والبساتين الواسعة وجعلوا فيها بركة كبيرة. وكانت قيسارية مراكش، أي السوق الرئيسية، من أضخم ما بنى في الإسلام. هذا من حيث مباهج المدينة. لكن يجب أن تضيف إلى ذلك كله مدارس مراكش ومستشفياتها وحماماتها وأسوارها وتحصيناتها. فالمدينة كانت عاصمة لدولة قوية، وكانت معرضة للغزو في أحيان كثيرة. لذلك كان من الضروري أن تكون قوية محصنة.
والمرابطون والموحدون كان للدين في نفوسهم حرمة، فكان من الطبيعي أن يكون لعلمائه في بلاطهم مكانة. والموحدون كانوا على ذلك أحرص. فابن تومرت، مؤسس دولتهم، كان يرى في الدولة التي انشأها أحياء للسنة وتمجيدا للإسلام. بذلك ءامن وعلى ذلك جرى خلفاؤه فأحيوا السنة في الأجزاء الإسلامية، ونشروا الإسلام جنوبي المغرب الأقصى.
وقد دعا المرابطون والموحدون أهل العلم والمعرفة من اسبانية وشجعوهم على الإقامة في بلاطهم. وكان الظرف مناسبا لذلك. فالإسبان كانوا يحتلون اسبانية الإسلامية جزءا بعد الآخر، فكان يطيب لعلماء المسلمين والمجال للاشتغال بالعلم. وممن رحل إلى مراكش زهر وابنه الطبيبان وابن باجة وبان طفيل وابن رشد من الفلاسفة. وقد زارها الشريف الإدريسي الجغرافي المشهور.
وقد اقتضت الأعمال العمرانية التي قامت في مراكش مدة قرنين أن يتدفق إلى العاصمة العمال والصناع والفنانون والبناؤون والتجار والطلاب والكتاب، هذا إلى ما ذكر من أهل المحكمة والشريعة. وتوافد الناس إلى المدينة من جميع الجهات وجميع الأصناف. كما كثر الزوار الذين كانوا يقدمونها لقضاء مصالح معينة.
كانت مراكش مدينة دفاع عن الإسلام إذ كانت تقع في حدوده القصوى. وكان دفاعها حربيا كما كان علميا. فمنها كان يخرج الدعاة المنظمون لتوضيح الإسلام لأهل المنطقة المختلفة. وكان هؤلاء الدعاة يدربون على أيدي قوم من أهل العلم والكفاءة والمقدرة، كما ان مراكش استقطبت الأطباء والفلاسفة وأهل المعرفة كما رأينا. لذلك فقد أصبحت مستودعا لأنواع المعرفة في تلك المنطقة النائية عن مناطق الإسلام والحضارة العربية المركزة. والعلم الذي وصل إليه كان قد صفي في الخارج، كما أن انعدام الثقافات الأخرى في تلك المنطقة وفر على أهل مراكش ومفكريها مشقة الجدل والمناقشة مع الخصوم. ومعنى هذا أن مراكش لم تعرف التوتر الفكري الذي عرفته بغداد.
وعمل الموحدون على تنمية الشخصية العالمية للمغرب، فأنشأوا مؤسسات تعليمية كثيرة، منها بيت الطلبة بمراكش.وقد أخرج الأستاذ عثمان الكعاك أنه كان في المدرسة الإدارية ثلاثة ءالاف طالب يقرأون كتب المهدي بن تومرت ويتعلمون الفنون الحربية وما إلى ذلك. ويقول: ينقسم الطلبة المغاربة في العهد الموحدي إلى ثلاث طبقات:
1 – الطلبة أبناء الأمراء يتعلمون في مدرسة الأمراء الملوكية ليترسم بعضهم إلى الوظائف الملوكية العليا من الإمارة إلى الوزارة.
2 – الطلبة المصامدة الذين هم من قبيلة مصمودة البربرية قبيلة الموحدين. وهؤلاء وعددهم يزيد عن ثلاثة ءالاف يتعلمون في المدرسة الإدارية تعلما خاصا ليتخرجوا في الوظائف الدولية.
3 – طلبة الحضر أو البلدية أي طلبة برجوازية المدن وهم يتعلمون في بعض الوظائف الشرعية دون الوظائف الإدارية المخزنية.
ولكل صنف من الثلاثة رئيس أو مقدم أو مزوار يسمى سلطان الطلبة ينتخب على عام عادة.
وكما عني الموحدون بالعلم عنوا بصحة القوم. فقد بنى المنصور مستشفى عظيما في مراكش، قال صاحب المعجب في وصفه:
«وبنى بمدينة مراكش مارستانا ما أظن أن في الدنيا مثله، وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وامر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه فاتقنا في منه النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر ان يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار والمشمومات والمأكولات، واجرى فيها مياها كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسطه، احداهما رخام أبيض، ثم أمر له من الفرش النفيسة من انواع الصوف والكتان الحرير والأديم ويره بما يزيد عل الوصف ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة، خارجا ما جلب إليه من الأدوية وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والادهان والأكحال، وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض فان كان فقيرا امر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنيا دفع إليه ماله وتركه وسببه، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت بيت، يقول: كيف حالكم وكيف القومة عليكم إلى غير ذلك من السؤال، لم يزل مستمرا على هذا إلى أن مات رحمه الله».
فتحت افريقية أيام الأمريين، وصارت المنطقة التي تدور في فلك مدينة تونس اليوم نقطة إطلاق للفتح والعلم والأدب. وتركز ذلك أيام الولاة والأغالبة في القيروان. لكن تونس، وهي مشرعة على البحر، كانت رئة افريقية العربية ان كانت القيروان قلبها. ففي تونس كانت دار صناعة أنشأها حسان بن النعمان ووسعها ابن الحجاب فيما بعد. ودار الصناعة هذه هي التي مكنت للأغالبة من الحصول على أسطول يفتح لهم صقلية وما إليها. على أن ابن الحجاب قام بعمل ءاخر لم يدر يومها أنه سيكون له أثر كبير في حياة تونس والمغرب الافريقي. ذلك بأنه بنى جامع الزيتونة سنة 114 (732).
وقال البكري عن تونس في أوائل القرن الخامس (الحادي عشر) «وجامع تونس رفيع البناء مطل على البحر ينظر الجالس فيه إلى جميع جواريه. ويرقى إلى الجامع من جهة الشرق على اثنتي عشرة درجة. وبها أسواق كثيرة ومتاجر عجيبة وفنادق وحمامات ودور المدينة كلها رخام بديع.. ويصنع بتونس للماء من الخزف كيزان تعرف بالريحية، شديدة البياض في نهاية الرقة تكاد تشف، ليس يعمل لها نظير في جميع الأقطار. وتونس من اشرف بلاد افريقية وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة، فمن ذلك اللوز الفريك يفرك بعضه بعضا من رقة قشره ويحث باليد وأكثره حبتان في كل لوزة مع طيب المضغة وعظم الحبةن والرمان الضعيف الذي لا عجم له البتة مع صدق الحلاوة وكثرة المائية، والاترج الجليل الطيب الذكي الرائحة البديع المنظر، والتين الخارمي أسود كبير رقيق القشر كثير العسل لا يكاد يوجد له بزر، والسفرجل المتناهي كبرا وطيبا وعطرا، والعناب الرفيع في قدر الجوزة، والبصل القلوري في قدر الترج مستطيل سابري القشر صادق الحلاوة كثير الماء. وبها من أجناس السمك ما لا يوجد في غيرها، يرى في كل شهر جنس من السمك لا يرى في الذي قبله، يملح فيبقى سنين صحيح الحرم طيب الطعم».
ويسرع التاريخ في تونس، كما يسرع في بقية أرجاء المغرب، فترى الأغالبة يعنون برقادة، والعبيديين يهتمون بالمهدية، والصناهجيين يخلفون هؤلاء فيحاولون توطيد ملكهم هناك. ويعنون بالبناء والعمران والسفن والجيوش على ما تم على يدي كبيرهم المعز بن باديس. وفي أواسط القرن الخامس (الحادي عشر) هاجم الهلاليون افريقية، فأصيبت مدنها، وصمت شعراؤها، وخيم الصمت في أرجائها، لكنها كتب لها أن تنهض بعد العثار، فنقضت عن نفسها الغبار، وعادت إلى العمل ليل نهار. فعاد المجد إليها أيام الحفصيين وتركز في مدينتهم تونس التي كانت قد أصبحت حتى قبل ذلك بقليل عاصمة الديار الإفريقية.
ويعد أبو زكرياء يحيى من أهر القرن السابع (الثالث عشر) أبرز شخصية في دولة الحفصيين. وهو الذي ابتنى جامع القصبة وصومعته الجميلة الشكل ونقش عليها اسمه واذن فيها بنفسه ليلة تمامها غرة رمضان سنة 630 (1233) وشاد غير ذلك من المساجد والمدارس وابتنى أيضا سوق العطارين بتونس وانشأ في قصره بالقصبة دار الكتب جمع فيها ستة وثلاثين ألف مجلد من أنفس المؤلفات، وقد تلاشت في ءاخر أيام الدولة الحفصية.
وفي العهد الحفصي انتشر التعليم بالبلاد بواسطة الكتاتيب والزوايا وبتونس انتظم التعليم بجامع الزيتونة الذي تطور حتى صار أكبر جامعة إسلامية عرفتها بلاد المغرب بأسرها وأنبت علماء افذاذا. وأسس الحفصيون نساء ورجالا مدارس كثيرة منها المدرسة الشماعية والمدرسة العنفية والمدرسة التوفيقية الملحقة بجامع الهواء. وقد جلبوا لها الأساتذة من الأندلس ومن طرابلس ومن المهدية، وأسكنوا بها الطلبة وقاموا بإطعامهم وكونوا لهم بها المكتبات فقامت بأكبر قسط في تكوينهم تكوينا جامعيا وتأهيلهم إلى تقلد المناصب الرفيعة.
«وانتشرت الثقافة أيضا بواسطة المكتبات الكثيرة التي انشئت ومن أشهرها مكتبة جامع الزيتونة التي عرفت ب (العبدلية) ووضع بها أنفس الكتب.
«وقد ساهم بقسط وافر في النهضة العلمية مهاجروا الأندلس إذ كان من بينهم العلماء والأدبء الشعراء والكتاب. وبفضلهم ارتقى الفن.
« وبفضل ذلك كله، وبفضل تنشيط بعض الأمراء للعلم وذويه وللأدب والشعراء، انتشر التعليم وأقبل الناء على طلبه. وازدهرت الثقافة، وانتعش الأدب ونشطت حركته، وارتقى الطب وحمل لواءه خريجو المدرسة الصقلية والمدرسة الأندلسية. وأصبحت تونس في هذه الميادين أم البلاد المغربية وقطبها الأكبر بلا منازع».
أما العلم الذي تلقاه الناس فلم يقتصر على الشرع والدين واللغة والأدب، بل شمل غير ذلك. فقد روى أن أبا العباس أحمد بن شعيب الفاسي الجزنائي الذي بعد أن قرأ على كثير من شيوخ فاس، انتقل إلى تونس فأخذ بها الطب والهيئة على الشيخ رحلة وقته في تلك الفنون يعقوب بن أحمد راس.
ويكفي تونس فخرا تزهو به على البلدان أن تكون مسقط رأس ابن خلدون. وقد روى المؤرخ الكبير اخبار نشأته ودراسته في التعريف بنفسه قال:
«أما نشأتي فإني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة (1332)، وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت. وقرأت القرءان العظيم على الأستاذ«بن برال الأنصاري» وبعد أن استظهرت القرءان الكريم من حفظى، قرأته بالقراءات السبع المشهورة أفرادا وجمعا في إحدى وعشرين ختمة.. ودارست عليه كتبا جمة.. وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي وعلى أستاذ تونس.. منهم الشيخ الحصابري، والزرزالي، وابن القصار، وابن بحر.. وأشار علي هذا بحفظ الشعر فحفظت الكثير منه.. وأخذت الفقه بتونس عن جماعة منهم الجياني، والقصير.. وكان قدم علينا في جملة السلطان ابي الحسن.. سنة ثمان وأربعين وسبعمائة جماعة من أهل العلم كان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمل بمكانهم فيه.. ولما قدم (علي بن محمد بن تروميت) على تونس.. لزمته وأخذت عنه الأصالين والمنطق وسائر الفنون الحكمسة والتعليمية».
أسست فاس في أيام إدريس الأكبر سنة 172 (789)، وذلك بعد أن ضاقت وليلي به وبجماعته وبمن وفد عليه من أهل المنطقة. ويبدو أن النقود ضربت في فاس هذه منذ سنة 189. وبعد ذلك بمدة ذهب إدريس الأزهر بن إدريس الأكبر إلى فاس ليستوطنها. ولما كان مولعا بالبناء والتجديد، على غرار ما عرف عن كبار اهل الحكم في العالم الإسلامي، فقد بنى هو الآخر مدينة جديدة على الطراز الشرقي الافريقي وذلك في سنة 193 (809). وقد سميت أولا العالية. ولكن بسبب كثرة من رحل إليها من القيروان وما إليها فقد عرفت فيما بعد باسم مدينة القرويين.
وفي سنة 202 (817) قدم إلى إدريس الأزهر القرطبيون المعروفون باسم «ثوار الربض» . ذلك أن ثورة قامت في قرطبة ضد الحكم أميرها، فقام الحكم باخمادها وفرق الثوار ثم أمر من بقي منهم، وهم كثرة، بالخروج من الأندلس. فانصرف بعضهم إلى فاس. فتلقاهم إدريس هناك، واستقروا على الضفة الشرقية من النهر، وأنشأوا تدريجيا مدينة أندلسية الشكل والنمط، وهي التي سميت فيما بعد مدينة الأندلسيين أو عدوة الأندلس.
ولما تم للإمام الاكبر إدريس بناء المدينة، وحضرت الجمعة الأولى، صعد المنبر وخطب الناس، ثم رفع يديه في ءاخر الخطبة وقال «اللهم إنك تعلم أنب ما اردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا سمعة ولا مكابرة. وإنما أردت أن تعبد فهيا ويتلى كتابك وتقام حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه مسلم ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه وأكفهم مؤونة أعدائهم وأدر عليهم الرزق واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنه على كل شيء قدير».
ومع أن عصر فاس الذهبي هو عصر بني مرين، فإن المدينة كانت، حتى قبل ذلك، مهبط أهل العلم، لأنها جمعت علم المشرق والمغرب، أي علم القيروان وقرطبة، وأضافت إلى ذلك الكثير من تفكير أبنائها بالذات.
وقد خلف لنا عير مؤلف وشاعر وصفا لفاس. فمن ذلك وصف جغرافيي العرب في القرن الرابع. ونجتزئ من ذلك على اثنين هما ابن حوقل والمقدسي. قال ابن حوقل : «وفاس مدينة جليلة يشقها نهر. وهي جانبان يليهما اميران مختلفان، وبين أهل الجانبين الفتن الدائمة والقتل الذريع المتصل. ونهرها كبير وغزير الماء عليه أرحية كثيرة. وهي مدينة خصبة مفروشة بالحجارة، أحدثها إدريس ابن إدريس. في كل يوم من أيام الصيف يرسل في أسواقها من نهرها الماء، فيغسلها فتبرد الحجارة. وجميع ما بها من الفواكه والخانات فزائد على سائر ما قرب منها وبع في أرض الهبط موقعه، وظاهر بكقرته حده وموضعه، ومستقاص بوفوره مكانه ومرفقه».
وقال المقدسي:
«فاس بلدان جليلان كبيران كل واحد منهما محصن، بينهما واد جرار عليه بساتين وارحية، قد استولى على أحدهما الفاطمي وعلى اللآخر الاموي. وكم ثم من حروب وقتل وغلبة. بناؤها مدر وحصنهما طوب. وأخرى على الوادي بناها ابن أحمد».
إلا أن مدينة فاس تقدمت واتسعت في أيام بني مرين إذ اتخذوها عاصمة لملكهم لما استقر أمرهم في البلاد. والذي يعود إليه الفضل في إنشاء الدولة والعاصمة الجديدة لها هو أبو يوسف. فإنه «لما عزم أمير المسلمين أبو يوسف على بناء مدينة يتخذها دار ملكه وقرار سلطانه ويسكنها هو وحاضرته وحشمه، ركب يوم الاحد الثالث لشوال من سنة اربعين وسبعين وستمائة وخرج معه العرفاء والبناؤون وأهل المعرفة بالصنائع. فتخيروا موضعها على وادي فاس، وشرع في حفر أساسها. وأخذ طالع ذلك الفقيه المعدل أبو الربيع سليمان الغياش وأبو عبد الله محمد بن الحباك. وكان تأسيسها في طالع سعيد ووقت يمن وبركة رمزية دل على طول بقائها وكثرة عمارتها واتصال خيراتها وما يجيء إليها من الأموال. فكانت والحمد لله مدينة مباركة. فاتخذها دار ملكه
وملك بنيه وعقبه من بعده، يجيء إليها جميع خراج المغرب.
ولبني مرين يرجع الفضل في تقوية مركز المدينة علميا. فقد وسع أبو عنان خزانة القرويين ونبى المدرسة البوعنانية. وقد جاء في جني زهرة الاس: «واما خزانة الكتب التي يدخل إليها من أعلى المستودع الذي بها فإنه لما كان من رأى أبي عنان، رحمه الله تعالى، حب العلم وإيثاره والاهتمام به والرغبة في انتشاره والاعتناء بأهله ومتحمليه والتودد لقرائه ومتحليه، انتدب لصنع هذه الخزانة. وأوسع على طلبة العلم بان اخرج لها من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان واللسان والأذهان وغير ذلك من العلوم على اختلافها وتنوع ضروبها وأجناسها، ووقفها ابتغاء الزلفى ورجاء ثواب الله الأوفى. وعين لها قيما لضبطها ومناولة ما فيها وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جرابة مؤدبة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى التي امر بها مولانا أمير المؤمنين أبو عنان، رحمه الله تعالى، في قبلة هذا الجامع الناطقة بالخير الجامع أنشئ على حسنها ما لم يسبقه إليها من أئمة هذه الأصقاع.
ولأبي سعيد المريني فضل على المدارس كبير، أنشأن المدرسة العظمة. «وفي سنة ثلاث وعشرين سبعمائة في فاتح شعبان منها أمر السلطان أبو سعيد أيضا ببناء المدرسة العظمى بإزاء جامع القرويين بفاس، وهي المعروفة اليوم بمدرسة العطارين. فبنيت على يد الشيخ أبي محمد عبد الله بن قاسم المزوار. وحضر السلطان أبو سعيد بنفسه في جماعة من الفقهاء وأهل الخير حتى أسست وشرع في بنائها بمحضره. فجاءت هذه المدرسة من أعجب مصانع الدول بحيث لم يبن ملك قبله مثلها. وأجرى بها ماء معينا من بعض العيون هنالك. وشحنها بالطلبة ورتب فيها إماما ومؤذنين وقومى يقومون بأمرها، ورتب فيها الفقهاء لتدريس العلم. وأجرى على الكل المرتبات والمؤن فوق الكفاية. واشترى عدم أملاك ووقفها عليها احتسابا بالله تعالى. وسيأتي التنبيه على ما بناه ابنه أبو الحسن من ذلك أيام ولايته وحافده أبو عنان وغيرهما إن شاء الله. وبالجملة فقد كان لبني مرين جنوح إلى الخير ومحبة في العلم وأهله، تشهد بذلك ءاثارهم الباقية إلى الآن في مدارسهم العلمية وغيرها».
ولعل خير ما وصفت به فاس في أيام بني مرين هو ما جاء في روض القرطاس، لابن أبي زرع، من مؤرخي عهدهم وأعلامه: «ومدينة فاس لم تزل أم بلاد المغرب في القديم والجديد وهي الآن قاعدة ملوك بني مرين أطال الله أيامهم وأعلى أمرهم وخلد سلطانهم فهي منهم في المحل الرفيع والشكل البديع. وقد جمعت مدينة فاس بين عذوبة الماء واعتدال الهواء وطيب التربة وحسن التمرة وسعت المحرث وعظيم بركته وقرب المحطب وكثرة عوده وشجره. وبها منازل مونقة وبساتين مشرقة ورياض مورقة وأسوق مرتبة منتشفة وعيون منهمرة وأنهار متفقة منحدرة وأشجار ملتفة وجنات دائرة بها مجتمعة. وقالت الحكماء أحسن مواضع المدن أن تجمع خمسة أشياء وهي النهر الجاري والمحرث الطيب والمحطب القريب والسور الحصين والسلطان، إذ به صلاح حالها وأمن سبلها وكف جبابرتها. وقد جمعت مدينة فاس هذه الخصال التي هي كمال المدن وشفها وزادت عليها بمحاسن كثيرة. فلها المحرث المعظم سقيا وبعلا على كل جهة منها ما ليس هو على مدينة من مدائن المغرب، وعليها المحطب في جبل بني بهلول الذي في قبلتها، يصبح كل يوم على أبوابها أحمل حطب البلوط والفحم ما لا يوصف كثرة. ونهرها يشقها بنصفين وينشعب في داخلها أنهارا وجداول وخلجانا فتتخلل الأنهار ديارها وبساتينها وجناتها وشوارعها وأسواقها وحماماتها، وتطحن بها أرحاؤها ، ويخرج منها وقد حمل أثقالها وأقذارها ورماداتها.
للعرب في اسبانية تاريخ طويل، فقد ظلوا فيها، أو في أجزاء منها، منذ أوائل القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) إلى أواخر القرن السابع الهجري (الخامس عشر الميلادي). في هذه الفترة أصلحوا كثيرا من المدن القديمة المهجورة وأنشأوا مدنا جديدة. والمدينة التي كانت عاصمة الأمويين أيام الولاية والإمارة والخلافة هي قرطبة، وهي التي نريد أن نتحدث عنها الآن. وقد كان عصر قرطبة الذهبي في أواسط القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) وخاصة أيام عبد الرحمن الناصر..
تقوم قرطبة على ضفاف نهر الوادي الكبير الجزء الداخلي منها عرف باسم المدينة، وبسبب ازدهار الحياة الاقتصادية وثراء المدينة والبلاد وعناية
الأمراء والخلفاء، اتسعت المدينة تدريجيا فخرج الناس إلى الضواحي حيث قامت أحياء جديدة فيها أسواقها مساجدها ومدارسها وقصورها. وأجمل الضواحي كانت الزاهرة التي بناها عبد الرحمن الناصر نفسه.
كان مسجد قرطبة الجامع الكبير وقصره الإمارة (الخلافة) يتوسطان المدينة وتدور بهما أسواقها المليئة بالمتاجر على اختلاف أنواعها. أما الصناعات فكانت موزعة على جهات مختلفة. ولا يمكن تصور شيء لم يصنع في قرطبة في تلك الأيام. لن لعل اهم ما أعطته المدينة لأوروبة في المصنوعات الورق والمصنوعات الجلدية والحلى. وبسبب ثراء المدينة وازدهارها تشجيع أولي الأمر تدفق الناس إلى قرطبة. فجمعت من كل صنف ونوع وعمل.
كان الجامع المدرسة الأولى في قرطبة، شأنها في ذلك شأن غيرها من المدن العربية والإسلامية. إلا أن الناصر أنشأ معهدا للدراسات المختلفة وكان على مقربة من المسجد الجامع. وقد كان رجال التعليم فيه يكرمون وتؤمن لهم حاجاتهم، فأقبلوا على الجامع من كل حدب وصوب. وكان في مكتبة القصر ما يزيد على نصف مليون مجلد. وكان الطلاب يتلقون العون المادي ويجدون الأماكن الصالحة للسكن.
والمواد التي كان الطلاب يتعلمونها شملت جميع أنواع المعارف: الأدب والتاريخ والفقه وعلم الكلام والفلسفة والرياضيات والفلك والطب. ويكفي ان قرطبة حفلت بأسماء جماعة من كبار أهل الفكر في الإسلام مثل ابن باجة وابن رشد.
كانت قرطبة، مثل كثير غيرها من مدن الأندلس، مكانا للاحتكاك الفكري والتجاوب بين ما جاء به العرب من الشرق وما كان في اسبانية من قبل. لكن أهم من هذا كله أن مدن الأندلس العربية كانت مراكز انتقلت منها الحضارة والعلم والفلسفة إلى أوروبة. فقد نقل ما لا يقل عن مئتين من الكتب القيمة إلى اللغة اللاتينية، لغة العلم في أوروبة في العصور الوسطى. وهذه كانت الشرارة التي أيقظت العقل الأوروبي وفتحت الطرق أمام النهضةالاوروبية.
فإذا كان لقرطبة ومثيلاتها من مدن الاندلس دور خاص فهو أنها كانت جسرا انتقلت عليه المعرفة من العرب إلى الغرب.
وءاخر المدن التي نريد ان نعرض لها في هذا المقال هي بلرمو. كانت صقلية جزءا من الامبراطورية البزنطية إلى أن اختلها العرب في مطلع القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وظلت تحت السيادة العربية إلى سنة 458ه (1091 م) إذ انتزعها النورمان منهم. لكن ذلك لم يعن نهاية الحضارة العربية في بلرمو أو صقلية. ذلك بأن ملوك النورمان وخلفائهم من الأباطرة أدركا الفائدة التي يمكن أن تجني من الاستمرار الحضاري العربي فشجعوه وأفادوا منه.
في أيام العرب أصبحت بلرمو ملتقى الشعوب والأجناس والأديان المختلفة واستمر هذا بعد ذلك والتفاعل الحضاري بين هذه الجماعات المختلفة الذي بدأ أيام العرب استمر فيما بعد. فالحياة الاقتصادية ظلت نامية والاهتمام بالعلم لم يتوقف. ومدينة بلرمو ظهرة حولها أرباض وضواح هامة. وازداد عدد السكان في المدينة.
ولعل الملك النورماني الذي يستحق الذكر هو روجار (الثاني) الذي حكم في النصف الأول من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). فقد بني البيع في الجزيرة وزخرفتها بالنقوش الكوفية والقوس العربي والفسيفساء. والأبواب البرونزية والحديدية التي استعملت في أماكن العبادة والقصور هي عربية روحا وشكلا. وكانت علاقة روجار بالعرب المسلمين ودية للغاية. وكان يدعو علماءهم للاجتماع به. فيثيرون فيما بينهم القضايا المختلفة ويتباحثون فيها بروح الصداقة والمودة والعلم.
في هذا الجو عاش العالم الكبير الشريف الإدريسي، وهو كبير الجغرافيين العرب. ولد الإدريسي في سبتة من أعمال المغرب وتلقى العلم في قرطبة وتنقل في أنحاء البحر المتوسط. ويبدو أنه انتقل إلى بلاط روجار البحر 535 ه (1140م) وظل هناك إلى حين وفاته ( 576 ه - 1180م) وقد كان روجار شديد العناية بالفلك والجغرافية فوجد في الإدريسي ما يشفي غليله. ذلك بأن الملك كان يعرف ما كتب عن العالم قبلا. لكنه كان يرى ذلك نتفا تحتاج إلى جمع تنظيم بحيث تصبح الفكرة واضحة المعالم بينة الخطوط. فجاء الإدريسي وأتم ذلك. إذ وضع كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» ورسم
كرة من الفضة للأرض. وأهم ما في الكتاب، بالإضافة إلى المعلومات، ما رسمه الإدريسي من خرط للعالم. ومن حسن الحظ أن هذه كلها وصلت إلينا سالمة، كما وصل الكتاب. لكن الكرة الفضية تلفت في ثورة قامت في بلرمو بعد الفراغ منها بمدة قصيرة.
والآن ما هي أهمية بلرمو كمدينة عربية، لسلطان عربي وبدونه؟ أهميتها هي أنها كانت جسرا انتقلت عليه الحضارة العربية فنا ومعمارا وجغرافية وطبا من شمال افريقية إلى إيطالية. وكان صقلية مكانا للتصفية والاختبار والتجربة. ولعل صقلية عملت فيما بعد لنقل بعض ثمار النهضة الأوربية إلى تونس.
في هذا الدور تشبه بلرمو تونس وقرطبة واشبيلية وطليطلة وغيرها. لقد كانت هذه كلها منطقات نقل عنها الغرب علم العرب وفنهم وصناعاتهم وما إلى ذلك.
إذا نحن ألقينا نظرة عامة على هذه المدن التي عرضنا لها وغيرها مما أشرنا إليها وجدنا ان المدينة العربي كانت لها خطط متشابهة. فكل منها كان لها مسجد جامع تقام فيه صلاة الجمعة كما كان مركز الحياة العامة. وكان لكل منها قصر لصاحب الأمر كانت تدور بكل مدينة أسوار تحميها. والأسواق والقيساريات كانت مراكز الحياة الاقتصادية. وكانت هذه المدن لها مدارسها. وفي غالب الأحيان كانت للمدينة ضواحيها وارباضها وهي إما امتدادات للمدينة خارج الأسوار على نحو ما عرفت بغداد وفاس بذلك بسبب نمو المدينة السريع وازدياد عدد سكانها. وإما ان تكون منتزهاتن عامة على غرار غوطة دمشق، او متنزهات خاصة بالسلطان مثل الزهراء في قرطبة. هذه العناصر التي كانت تتكون منها المدينة كانت تختلف سعة وأبهة وقوة وضخامة بنسبة ما كانت عليه الدولة من ثروة قوة ومنعة واتساع وقعة.
وإذا تخطينا الخطط إلى الروح التي كانت تتميز بها المدينة العربية الإسلامية وجدنا أن ذلك يتوقف على الدولة التي تبنيها والجماعة التي تعمرها بادئ ذي بدء. فبغداد والقاهرة ومراكش كانت منشئات جديدة لدول جديدة – العباسيين والفاطميين والموحدين. وكل دولة كانت لها روح خاصة لها: من إحياء للخلافة أو إحقاق لحق أو تمجيد للدين في أطراف العالم الإسلامي. والدور الذي قامت به كل من هذه المدن كان يتمشى مع روحها: فدمشق نظمت امبراطورية. وبغداد نقلت العلم عن القدامى وعربته،وعمل العلماء فيها على خلق الفكر العربي الإسلامي. والقاهرة نظمت المذاهب الشيعية والإسماعيلية وجربت نشرها ومراكش أحيت السنة ووحدت المغرب العربي أشعريا. وفاس صفت العلم الإسلامي ونشرته في الربوع الإسلامية النائية.
أما قرطبة وتونس فلم تكونا مركزين كبيرين للعمل فحسب، بل كانتا منطلقا للمعرفة العربية والعلم العربي ينتقلان طبا وفلكا ورياضيات وفلسفة وكلاما وشعرا موشحا إلى أوربة عبر البرانيس إلى فرنسة وعبر البحر إلى إيطالية. وبلرمو حفظت حضارة العرب وثقافتهم مدة طويلة حتى بعد سقوط دولتهم، وبذلك مكنت للطب والفن والمعمار والأدب والمعرفة الجغرافية أن تحمل إلى أوروبة لا على أيدي زوار وتراجمة بحسب، ولكن بواسطة جماعات كبيرة تعايشت مع العرب وأفادت منهم.
المدينة العربية في العصور الوسطى كانت متعددة الأبعاد. ولا غرابة في ذلك فأبعادها – أفقيا وعموديا– مرتبطة بأبعاد هذه الحضارة والسياسة والثقافة التي عاشت فيها: في رقعة من الأرض عريضة ولفترة من الزمان طويلة.
والدولتان اتخذتا مدينة مراكش عاصمة لهما. أنشأ المرابطون مراكش ثم وسعوها، ولما جاء الموحدون اهتموا بعمرانها على نطاق واسع. فقد بنى هؤلاء جامع الكتبية ومنارته العالية ومحرابه المتقن الصنع ومقصورته الأنيقة. كما غرسوا حولها الحدائق الغناء والبساتين الواسعة وجعلوا فيها بركة كبيرة. وكانت قيسارية مراكش، أي السوق الرئيسية، من أضخم ما بنى في الإسلام. هذا من حيث مباهج المدينة. لكن يجب أن تضيف إلى ذلك كله مدارس مراكش ومستشفياتها وحماماتها وأسوارها وتحصيناتها. فالمدينة كانت عاصمة لدولة قوية، وكانت معرضة للغزو في أحيان كثيرة. لذلك كان من الضروري أن تكون قوية محصنة.
والمرابطون والموحدون كان للدين في نفوسهم حرمة، فكان من الطبيعي أن يكون لعلمائه في بلاطهم مكانة. والموحدون كانوا على ذلك أحرص. فابن تومرت، مؤسس دولتهم، كان يرى في الدولة التي انشأها أحياء للسنة وتمجيدا للإسلام. بذلك ءامن وعلى ذلك جرى خلفاؤه فأحيوا السنة في الأجزاء الإسلامية، ونشروا الإسلام جنوبي المغرب الأقصى.
وقد دعا المرابطون والموحدون أهل العلم والمعرفة من اسبانية وشجعوهم على الإقامة في بلاطهم. وكان الظرف مناسبا لذلك. فالإسبان كانوا يحتلون اسبانية الإسلامية جزءا بعد الآخر، فكان يطيب لعلماء المسلمين والمجال للاشتغال بالعلم. وممن رحل إلى مراكش زهر وابنه الطبيبان وابن باجة وبان طفيل وابن رشد من الفلاسفة. وقد زارها الشريف الإدريسي الجغرافي المشهور.
وقد اقتضت الأعمال العمرانية التي قامت في مراكش مدة قرنين أن يتدفق إلى العاصمة العمال والصناع والفنانون والبناؤون والتجار والطلاب والكتاب، هذا إلى ما ذكر من أهل المحكمة والشريعة. وتوافد الناس إلى المدينة من جميع الجهات وجميع الأصناف. كما كثر الزوار الذين كانوا يقدمونها لقضاء مصالح معينة.
كانت مراكش مدينة دفاع عن الإسلام إذ كانت تقع في حدوده القصوى. وكان دفاعها حربيا كما كان علميا. فمنها كان يخرج الدعاة المنظمون لتوضيح الإسلام لأهل المنطقة المختلفة. وكان هؤلاء الدعاة يدربون على أيدي قوم من أهل العلم والكفاءة والمقدرة، كما ان مراكش استقطبت الأطباء والفلاسفة وأهل المعرفة كما رأينا. لذلك فقد أصبحت مستودعا لأنواع المعرفة في تلك المنطقة النائية عن مناطق الإسلام والحضارة العربية المركزة. والعلم الذي وصل إليه كان قد صفي في الخارج، كما أن انعدام الثقافات الأخرى في تلك المنطقة وفر على أهل مراكش ومفكريها مشقة الجدل والمناقشة مع الخصوم. ومعنى هذا أن مراكش لم تعرف التوتر الفكري الذي عرفته بغداد.
وعمل الموحدون على تنمية الشخصية العالمية للمغرب، فأنشأوا مؤسسات تعليمية كثيرة، منها بيت الطلبة بمراكش.وقد أخرج الأستاذ عثمان الكعاك أنه كان في المدرسة الإدارية ثلاثة ءالاف طالب يقرأون كتب المهدي بن تومرت ويتعلمون الفنون الحربية وما إلى ذلك. ويقول: ينقسم الطلبة المغاربة في العهد الموحدي إلى ثلاث طبقات:
1 – الطلبة أبناء الأمراء يتعلمون في مدرسة الأمراء الملوكية ليترسم بعضهم إلى الوظائف الملوكية العليا من الإمارة إلى الوزارة.
2 – الطلبة المصامدة الذين هم من قبيلة مصمودة البربرية قبيلة الموحدين. وهؤلاء وعددهم يزيد عن ثلاثة ءالاف يتعلمون في المدرسة الإدارية تعلما خاصا ليتخرجوا في الوظائف الدولية.
3 – طلبة الحضر أو البلدية أي طلبة برجوازية المدن وهم يتعلمون في بعض الوظائف الشرعية دون الوظائف الإدارية المخزنية.
ولكل صنف من الثلاثة رئيس أو مقدم أو مزوار يسمى سلطان الطلبة ينتخب على عام عادة.
وكما عني الموحدون بالعلم عنوا بصحة القوم. فقد بنى المنصور مستشفى عظيما في مراكش، قال صاحب المعجب في وصفه:
«وبنى بمدينة مراكش مارستانا ما أظن أن في الدنيا مثله، وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وامر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه فاتقنا في منه النقوش البديعة والزخاريف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر ان يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار والمشمومات والمأكولات، واجرى فيها مياها كثيرة تدور على جميع البيوت، زيادة على أربع برك في وسطه، احداهما رخام أبيض، ثم أمر له من الفرش النفيسة من انواع الصوف والكتان الحرير والأديم ويره بما يزيد عل الوصف ويأتي فوق النعت، وأجرى له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة، خارجا ما جلب إليه من الأدوية وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والادهان والأكحال، وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض فان كان فقيرا امر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنيا دفع إليه ماله وتركه وسببه، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت بيت، يقول: كيف حالكم وكيف القومة عليكم إلى غير ذلك من السؤال، لم يزل مستمرا على هذا إلى أن مات رحمه الله».
فتحت افريقية أيام الأمريين، وصارت المنطقة التي تدور في فلك مدينة تونس اليوم نقطة إطلاق للفتح والعلم والأدب. وتركز ذلك أيام الولاة والأغالبة في القيروان. لكن تونس، وهي مشرعة على البحر، كانت رئة افريقية العربية ان كانت القيروان قلبها. ففي تونس كانت دار صناعة أنشأها حسان بن النعمان ووسعها ابن الحجاب فيما بعد. ودار الصناعة هذه هي التي مكنت للأغالبة من الحصول على أسطول يفتح لهم صقلية وما إليها. على أن ابن الحجاب قام بعمل ءاخر لم يدر يومها أنه سيكون له أثر كبير في حياة تونس والمغرب الافريقي. ذلك بأنه بنى جامع الزيتونة سنة 114 (732).
وقال البكري عن تونس في أوائل القرن الخامس (الحادي عشر) «وجامع تونس رفيع البناء مطل على البحر ينظر الجالس فيه إلى جميع جواريه. ويرقى إلى الجامع من جهة الشرق على اثنتي عشرة درجة. وبها أسواق كثيرة ومتاجر عجيبة وفنادق وحمامات ودور المدينة كلها رخام بديع.. ويصنع بتونس للماء من الخزف كيزان تعرف بالريحية، شديدة البياض في نهاية الرقة تكاد تشف، ليس يعمل لها نظير في جميع الأقطار. وتونس من اشرف بلاد افريقية وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة، فمن ذلك اللوز الفريك يفرك بعضه بعضا من رقة قشره ويحث باليد وأكثره حبتان في كل لوزة مع طيب المضغة وعظم الحبةن والرمان الضعيف الذي لا عجم له البتة مع صدق الحلاوة وكثرة المائية، والاترج الجليل الطيب الذكي الرائحة البديع المنظر، والتين الخارمي أسود كبير رقيق القشر كثير العسل لا يكاد يوجد له بزر، والسفرجل المتناهي كبرا وطيبا وعطرا، والعناب الرفيع في قدر الجوزة، والبصل القلوري في قدر الترج مستطيل سابري القشر صادق الحلاوة كثير الماء. وبها من أجناس السمك ما لا يوجد في غيرها، يرى في كل شهر جنس من السمك لا يرى في الذي قبله، يملح فيبقى سنين صحيح الحرم طيب الطعم».
ويسرع التاريخ في تونس، كما يسرع في بقية أرجاء المغرب، فترى الأغالبة يعنون برقادة، والعبيديين يهتمون بالمهدية، والصناهجيين يخلفون هؤلاء فيحاولون توطيد ملكهم هناك. ويعنون بالبناء والعمران والسفن والجيوش على ما تم على يدي كبيرهم المعز بن باديس. وفي أواسط القرن الخامس (الحادي عشر) هاجم الهلاليون افريقية، فأصيبت مدنها، وصمت شعراؤها، وخيم الصمت في أرجائها، لكنها كتب لها أن تنهض بعد العثار، فنقضت عن نفسها الغبار، وعادت إلى العمل ليل نهار. فعاد المجد إليها أيام الحفصيين وتركز في مدينتهم تونس التي كانت قد أصبحت حتى قبل ذلك بقليل عاصمة الديار الإفريقية.
ويعد أبو زكرياء يحيى من أهر القرن السابع (الثالث عشر) أبرز شخصية في دولة الحفصيين. وهو الذي ابتنى جامع القصبة وصومعته الجميلة الشكل ونقش عليها اسمه واذن فيها بنفسه ليلة تمامها غرة رمضان سنة 630 (1233) وشاد غير ذلك من المساجد والمدارس وابتنى أيضا سوق العطارين بتونس وانشأ في قصره بالقصبة دار الكتب جمع فيها ستة وثلاثين ألف مجلد من أنفس المؤلفات، وقد تلاشت في ءاخر أيام الدولة الحفصية.
وفي العهد الحفصي انتشر التعليم بالبلاد بواسطة الكتاتيب والزوايا وبتونس انتظم التعليم بجامع الزيتونة الذي تطور حتى صار أكبر جامعة إسلامية عرفتها بلاد المغرب بأسرها وأنبت علماء افذاذا. وأسس الحفصيون نساء ورجالا مدارس كثيرة منها المدرسة الشماعية والمدرسة العنفية والمدرسة التوفيقية الملحقة بجامع الهواء. وقد جلبوا لها الأساتذة من الأندلس ومن طرابلس ومن المهدية، وأسكنوا بها الطلبة وقاموا بإطعامهم وكونوا لهم بها المكتبات فقامت بأكبر قسط في تكوينهم تكوينا جامعيا وتأهيلهم إلى تقلد المناصب الرفيعة.
«وانتشرت الثقافة أيضا بواسطة المكتبات الكثيرة التي انشئت ومن أشهرها مكتبة جامع الزيتونة التي عرفت ب (العبدلية) ووضع بها أنفس الكتب.
«وقد ساهم بقسط وافر في النهضة العلمية مهاجروا الأندلس إذ كان من بينهم العلماء والأدبء الشعراء والكتاب. وبفضلهم ارتقى الفن.
« وبفضل ذلك كله، وبفضل تنشيط بعض الأمراء للعلم وذويه وللأدب والشعراء، انتشر التعليم وأقبل الناء على طلبه. وازدهرت الثقافة، وانتعش الأدب ونشطت حركته، وارتقى الطب وحمل لواءه خريجو المدرسة الصقلية والمدرسة الأندلسية. وأصبحت تونس في هذه الميادين أم البلاد المغربية وقطبها الأكبر بلا منازع».
أما العلم الذي تلقاه الناس فلم يقتصر على الشرع والدين واللغة والأدب، بل شمل غير ذلك. فقد روى أن أبا العباس أحمد بن شعيب الفاسي الجزنائي الذي بعد أن قرأ على كثير من شيوخ فاس، انتقل إلى تونس فأخذ بها الطب والهيئة على الشيخ رحلة وقته في تلك الفنون يعقوب بن أحمد راس.
ويكفي تونس فخرا تزهو به على البلدان أن تكون مسقط رأس ابن خلدون. وقد روى المؤرخ الكبير اخبار نشأته ودراسته في التعريف بنفسه قال:
«أما نشأتي فإني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة (1332)، وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت. وقرأت القرءان العظيم على الأستاذ«بن برال الأنصاري» وبعد أن استظهرت القرءان الكريم من حفظى، قرأته بالقراءات السبع المشهورة أفرادا وجمعا في إحدى وعشرين ختمة.. ودارست عليه كتبا جمة.. وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي وعلى أستاذ تونس.. منهم الشيخ الحصابري، والزرزالي، وابن القصار، وابن بحر.. وأشار علي هذا بحفظ الشعر فحفظت الكثير منه.. وأخذت الفقه بتونس عن جماعة منهم الجياني، والقصير.. وكان قدم علينا في جملة السلطان ابي الحسن.. سنة ثمان وأربعين وسبعمائة جماعة من أهل العلم كان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمل بمكانهم فيه.. ولما قدم (علي بن محمد بن تروميت) على تونس.. لزمته وأخذت عنه الأصالين والمنطق وسائر الفنون الحكمسة والتعليمية».
أسست فاس في أيام إدريس الأكبر سنة 172 (789)، وذلك بعد أن ضاقت وليلي به وبجماعته وبمن وفد عليه من أهل المنطقة. ويبدو أن النقود ضربت في فاس هذه منذ سنة 189. وبعد ذلك بمدة ذهب إدريس الأزهر بن إدريس الأكبر إلى فاس ليستوطنها. ولما كان مولعا بالبناء والتجديد، على غرار ما عرف عن كبار اهل الحكم في العالم الإسلامي، فقد بنى هو الآخر مدينة جديدة على الطراز الشرقي الافريقي وذلك في سنة 193 (809). وقد سميت أولا العالية. ولكن بسبب كثرة من رحل إليها من القيروان وما إليها فقد عرفت فيما بعد باسم مدينة القرويين.
وفي سنة 202 (817) قدم إلى إدريس الأزهر القرطبيون المعروفون باسم «ثوار الربض» . ذلك أن ثورة قامت في قرطبة ضد الحكم أميرها، فقام الحكم باخمادها وفرق الثوار ثم أمر من بقي منهم، وهم كثرة، بالخروج من الأندلس. فانصرف بعضهم إلى فاس. فتلقاهم إدريس هناك، واستقروا على الضفة الشرقية من النهر، وأنشأوا تدريجيا مدينة أندلسية الشكل والنمط، وهي التي سميت فيما بعد مدينة الأندلسيين أو عدوة الأندلس.
ولما تم للإمام الاكبر إدريس بناء المدينة، وحضرت الجمعة الأولى، صعد المنبر وخطب الناس، ثم رفع يديه في ءاخر الخطبة وقال «اللهم إنك تعلم أنب ما اردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا سمعة ولا مكابرة. وإنما أردت أن تعبد فهيا ويتلى كتابك وتقام حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه مسلم ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه وأكفهم مؤونة أعدائهم وأدر عليهم الرزق واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنه على كل شيء قدير».
ومع أن عصر فاس الذهبي هو عصر بني مرين، فإن المدينة كانت، حتى قبل ذلك، مهبط أهل العلم، لأنها جمعت علم المشرق والمغرب، أي علم القيروان وقرطبة، وأضافت إلى ذلك الكثير من تفكير أبنائها بالذات.
وقد خلف لنا عير مؤلف وشاعر وصفا لفاس. فمن ذلك وصف جغرافيي العرب في القرن الرابع. ونجتزئ من ذلك على اثنين هما ابن حوقل والمقدسي. قال ابن حوقل : «وفاس مدينة جليلة يشقها نهر. وهي جانبان يليهما اميران مختلفان، وبين أهل الجانبين الفتن الدائمة والقتل الذريع المتصل. ونهرها كبير وغزير الماء عليه أرحية كثيرة. وهي مدينة خصبة مفروشة بالحجارة، أحدثها إدريس ابن إدريس. في كل يوم من أيام الصيف يرسل في أسواقها من نهرها الماء، فيغسلها فتبرد الحجارة. وجميع ما بها من الفواكه والخانات فزائد على سائر ما قرب منها وبع في أرض الهبط موقعه، وظاهر بكقرته حده وموضعه، ومستقاص بوفوره مكانه ومرفقه».
وقال المقدسي:
«فاس بلدان جليلان كبيران كل واحد منهما محصن، بينهما واد جرار عليه بساتين وارحية، قد استولى على أحدهما الفاطمي وعلى اللآخر الاموي. وكم ثم من حروب وقتل وغلبة. بناؤها مدر وحصنهما طوب. وأخرى على الوادي بناها ابن أحمد».
إلا أن مدينة فاس تقدمت واتسعت في أيام بني مرين إذ اتخذوها عاصمة لملكهم لما استقر أمرهم في البلاد. والذي يعود إليه الفضل في إنشاء الدولة والعاصمة الجديدة لها هو أبو يوسف. فإنه «لما عزم أمير المسلمين أبو يوسف على بناء مدينة يتخذها دار ملكه وقرار سلطانه ويسكنها هو وحاضرته وحشمه، ركب يوم الاحد الثالث لشوال من سنة اربعين وسبعين وستمائة وخرج معه العرفاء والبناؤون وأهل المعرفة بالصنائع. فتخيروا موضعها على وادي فاس، وشرع في حفر أساسها. وأخذ طالع ذلك الفقيه المعدل أبو الربيع سليمان الغياش وأبو عبد الله محمد بن الحباك. وكان تأسيسها في طالع سعيد ووقت يمن وبركة رمزية دل على طول بقائها وكثرة عمارتها واتصال خيراتها وما يجيء إليها من الأموال. فكانت والحمد لله مدينة مباركة. فاتخذها دار ملكه
وملك بنيه وعقبه من بعده، يجيء إليها جميع خراج المغرب.
ولبني مرين يرجع الفضل في تقوية مركز المدينة علميا. فقد وسع أبو عنان خزانة القرويين ونبى المدرسة البوعنانية. وقد جاء في جني زهرة الاس: «واما خزانة الكتب التي يدخل إليها من أعلى المستودع الذي بها فإنه لما كان من رأى أبي عنان، رحمه الله تعالى، حب العلم وإيثاره والاهتمام به والرغبة في انتشاره والاعتناء بأهله ومتحمليه والتودد لقرائه ومتحليه، انتدب لصنع هذه الخزانة. وأوسع على طلبة العلم بان اخرج لها من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان واللسان والأذهان وغير ذلك من العلوم على اختلافها وتنوع ضروبها وأجناسها، ووقفها ابتغاء الزلفى ورجاء ثواب الله الأوفى. وعين لها قيما لضبطها ومناولة ما فيها وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جرابة مؤدبة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى التي امر بها مولانا أمير المؤمنين أبو عنان، رحمه الله تعالى، في قبلة هذا الجامع الناطقة بالخير الجامع أنشئ على حسنها ما لم يسبقه إليها من أئمة هذه الأصقاع.
ولأبي سعيد المريني فضل على المدارس كبير، أنشأن المدرسة العظمة. «وفي سنة ثلاث وعشرين سبعمائة في فاتح شعبان منها أمر السلطان أبو سعيد أيضا ببناء المدرسة العظمى بإزاء جامع القرويين بفاس، وهي المعروفة اليوم بمدرسة العطارين. فبنيت على يد الشيخ أبي محمد عبد الله بن قاسم المزوار. وحضر السلطان أبو سعيد بنفسه في جماعة من الفقهاء وأهل الخير حتى أسست وشرع في بنائها بمحضره. فجاءت هذه المدرسة من أعجب مصانع الدول بحيث لم يبن ملك قبله مثلها. وأجرى بها ماء معينا من بعض العيون هنالك. وشحنها بالطلبة ورتب فيها إماما ومؤذنين وقومى يقومون بأمرها، ورتب فيها الفقهاء لتدريس العلم. وأجرى على الكل المرتبات والمؤن فوق الكفاية. واشترى عدم أملاك ووقفها عليها احتسابا بالله تعالى. وسيأتي التنبيه على ما بناه ابنه أبو الحسن من ذلك أيام ولايته وحافده أبو عنان وغيرهما إن شاء الله. وبالجملة فقد كان لبني مرين جنوح إلى الخير ومحبة في العلم وأهله، تشهد بذلك ءاثارهم الباقية إلى الآن في مدارسهم العلمية وغيرها».
ولعل خير ما وصفت به فاس في أيام بني مرين هو ما جاء في روض القرطاس، لابن أبي زرع، من مؤرخي عهدهم وأعلامه: «ومدينة فاس لم تزل أم بلاد المغرب في القديم والجديد وهي الآن قاعدة ملوك بني مرين أطال الله أيامهم وأعلى أمرهم وخلد سلطانهم فهي منهم في المحل الرفيع والشكل البديع. وقد جمعت مدينة فاس بين عذوبة الماء واعتدال الهواء وطيب التربة وحسن التمرة وسعت المحرث وعظيم بركته وقرب المحطب وكثرة عوده وشجره. وبها منازل مونقة وبساتين مشرقة ورياض مورقة وأسوق مرتبة منتشفة وعيون منهمرة وأنهار متفقة منحدرة وأشجار ملتفة وجنات دائرة بها مجتمعة. وقالت الحكماء أحسن مواضع المدن أن تجمع خمسة أشياء وهي النهر الجاري والمحرث الطيب والمحطب القريب والسور الحصين والسلطان، إذ به صلاح حالها وأمن سبلها وكف جبابرتها. وقد جمعت مدينة فاس هذه الخصال التي هي كمال المدن وشفها وزادت عليها بمحاسن كثيرة. فلها المحرث المعظم سقيا وبعلا على كل جهة منها ما ليس هو على مدينة من مدائن المغرب، وعليها المحطب في جبل بني بهلول الذي في قبلتها، يصبح كل يوم على أبوابها أحمل حطب البلوط والفحم ما لا يوصف كثرة. ونهرها يشقها بنصفين وينشعب في داخلها أنهارا وجداول وخلجانا فتتخلل الأنهار ديارها وبساتينها وجناتها وشوارعها وأسواقها وحماماتها، وتطحن بها أرحاؤها ، ويخرج منها وقد حمل أثقالها وأقذارها ورماداتها.
للعرب في اسبانية تاريخ طويل، فقد ظلوا فيها، أو في أجزاء منها، منذ أوائل القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) إلى أواخر القرن السابع الهجري (الخامس عشر الميلادي). في هذه الفترة أصلحوا كثيرا من المدن القديمة المهجورة وأنشأوا مدنا جديدة. والمدينة التي كانت عاصمة الأمويين أيام الولاية والإمارة والخلافة هي قرطبة، وهي التي نريد أن نتحدث عنها الآن. وقد كان عصر قرطبة الذهبي في أواسط القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) وخاصة أيام عبد الرحمن الناصر..
تقوم قرطبة على ضفاف نهر الوادي الكبير الجزء الداخلي منها عرف باسم المدينة، وبسبب ازدهار الحياة الاقتصادية وثراء المدينة والبلاد وعناية
الأمراء والخلفاء، اتسعت المدينة تدريجيا فخرج الناس إلى الضواحي حيث قامت أحياء جديدة فيها أسواقها مساجدها ومدارسها وقصورها. وأجمل الضواحي كانت الزاهرة التي بناها عبد الرحمن الناصر نفسه.
كان مسجد قرطبة الجامع الكبير وقصره الإمارة (الخلافة) يتوسطان المدينة وتدور بهما أسواقها المليئة بالمتاجر على اختلاف أنواعها. أما الصناعات فكانت موزعة على جهات مختلفة. ولا يمكن تصور شيء لم يصنع في قرطبة في تلك الأيام. لن لعل اهم ما أعطته المدينة لأوروبة في المصنوعات الورق والمصنوعات الجلدية والحلى. وبسبب ثراء المدينة وازدهارها تشجيع أولي الأمر تدفق الناس إلى قرطبة. فجمعت من كل صنف ونوع وعمل.
كان الجامع المدرسة الأولى في قرطبة، شأنها في ذلك شأن غيرها من المدن العربية والإسلامية. إلا أن الناصر أنشأ معهدا للدراسات المختلفة وكان على مقربة من المسجد الجامع. وقد كان رجال التعليم فيه يكرمون وتؤمن لهم حاجاتهم، فأقبلوا على الجامع من كل حدب وصوب. وكان في مكتبة القصر ما يزيد على نصف مليون مجلد. وكان الطلاب يتلقون العون المادي ويجدون الأماكن الصالحة للسكن.
والمواد التي كان الطلاب يتعلمونها شملت جميع أنواع المعارف: الأدب والتاريخ والفقه وعلم الكلام والفلسفة والرياضيات والفلك والطب. ويكفي ان قرطبة حفلت بأسماء جماعة من كبار أهل الفكر في الإسلام مثل ابن باجة وابن رشد.
كانت قرطبة، مثل كثير غيرها من مدن الأندلس، مكانا للاحتكاك الفكري والتجاوب بين ما جاء به العرب من الشرق وما كان في اسبانية من قبل. لكن أهم من هذا كله أن مدن الأندلس العربية كانت مراكز انتقلت منها الحضارة والعلم والفلسفة إلى أوروبة. فقد نقل ما لا يقل عن مئتين من الكتب القيمة إلى اللغة اللاتينية، لغة العلم في أوروبة في العصور الوسطى. وهذه كانت الشرارة التي أيقظت العقل الأوروبي وفتحت الطرق أمام النهضةالاوروبية.
فإذا كان لقرطبة ومثيلاتها من مدن الاندلس دور خاص فهو أنها كانت جسرا انتقلت عليه المعرفة من العرب إلى الغرب.
وءاخر المدن التي نريد ان نعرض لها في هذا المقال هي بلرمو. كانت صقلية جزءا من الامبراطورية البزنطية إلى أن اختلها العرب في مطلع القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وظلت تحت السيادة العربية إلى سنة 458ه (1091 م) إذ انتزعها النورمان منهم. لكن ذلك لم يعن نهاية الحضارة العربية في بلرمو أو صقلية. ذلك بأن ملوك النورمان وخلفائهم من الأباطرة أدركا الفائدة التي يمكن أن تجني من الاستمرار الحضاري العربي فشجعوه وأفادوا منه.
في أيام العرب أصبحت بلرمو ملتقى الشعوب والأجناس والأديان المختلفة واستمر هذا بعد ذلك والتفاعل الحضاري بين هذه الجماعات المختلفة الذي بدأ أيام العرب استمر فيما بعد. فالحياة الاقتصادية ظلت نامية والاهتمام بالعلم لم يتوقف. ومدينة بلرمو ظهرة حولها أرباض وضواح هامة. وازداد عدد السكان في المدينة.
ولعل الملك النورماني الذي يستحق الذكر هو روجار (الثاني) الذي حكم في النصف الأول من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). فقد بني البيع في الجزيرة وزخرفتها بالنقوش الكوفية والقوس العربي والفسيفساء. والأبواب البرونزية والحديدية التي استعملت في أماكن العبادة والقصور هي عربية روحا وشكلا. وكانت علاقة روجار بالعرب المسلمين ودية للغاية. وكان يدعو علماءهم للاجتماع به. فيثيرون فيما بينهم القضايا المختلفة ويتباحثون فيها بروح الصداقة والمودة والعلم.
في هذا الجو عاش العالم الكبير الشريف الإدريسي، وهو كبير الجغرافيين العرب. ولد الإدريسي في سبتة من أعمال المغرب وتلقى العلم في قرطبة وتنقل في أنحاء البحر المتوسط. ويبدو أنه انتقل إلى بلاط روجار البحر 535 ه (1140م) وظل هناك إلى حين وفاته ( 576 ه - 1180م) وقد كان روجار شديد العناية بالفلك والجغرافية فوجد في الإدريسي ما يشفي غليله. ذلك بأن الملك كان يعرف ما كتب عن العالم قبلا. لكنه كان يرى ذلك نتفا تحتاج إلى جمع تنظيم بحيث تصبح الفكرة واضحة المعالم بينة الخطوط. فجاء الإدريسي وأتم ذلك. إذ وضع كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» ورسم
كرة من الفضة للأرض. وأهم ما في الكتاب، بالإضافة إلى المعلومات، ما رسمه الإدريسي من خرط للعالم. ومن حسن الحظ أن هذه كلها وصلت إلينا سالمة، كما وصل الكتاب. لكن الكرة الفضية تلفت في ثورة قامت في بلرمو بعد الفراغ منها بمدة قصيرة.
والآن ما هي أهمية بلرمو كمدينة عربية، لسلطان عربي وبدونه؟ أهميتها هي أنها كانت جسرا انتقلت عليه الحضارة العربية فنا ومعمارا وجغرافية وطبا من شمال افريقية إلى إيطالية. وكان صقلية مكانا للتصفية والاختبار والتجربة. ولعل صقلية عملت فيما بعد لنقل بعض ثمار النهضة الأوربية إلى تونس.
في هذا الدور تشبه بلرمو تونس وقرطبة واشبيلية وطليطلة وغيرها. لقد كانت هذه كلها منطقات نقل عنها الغرب علم العرب وفنهم وصناعاتهم وما إلى ذلك.
إذا نحن ألقينا نظرة عامة على هذه المدن التي عرضنا لها وغيرها مما أشرنا إليها وجدنا ان المدينة العربي كانت لها خطط متشابهة. فكل منها كان لها مسجد جامع تقام فيه صلاة الجمعة كما كان مركز الحياة العامة. وكان لكل منها قصر لصاحب الأمر كانت تدور بكل مدينة أسوار تحميها. والأسواق والقيساريات كانت مراكز الحياة الاقتصادية. وكانت هذه المدن لها مدارسها. وفي غالب الأحيان كانت للمدينة ضواحيها وارباضها وهي إما امتدادات للمدينة خارج الأسوار على نحو ما عرفت بغداد وفاس بذلك بسبب نمو المدينة السريع وازدياد عدد سكانها. وإما ان تكون منتزهاتن عامة على غرار غوطة دمشق، او متنزهات خاصة بالسلطان مثل الزهراء في قرطبة. هذه العناصر التي كانت تتكون منها المدينة كانت تختلف سعة وأبهة وقوة وضخامة بنسبة ما كانت عليه الدولة من ثروة قوة ومنعة واتساع وقعة.
وإذا تخطينا الخطط إلى الروح التي كانت تتميز بها المدينة العربية الإسلامية وجدنا أن ذلك يتوقف على الدولة التي تبنيها والجماعة التي تعمرها بادئ ذي بدء. فبغداد والقاهرة ومراكش كانت منشئات جديدة لدول جديدة – العباسيين والفاطميين والموحدين. وكل دولة كانت لها روح خاصة لها: من إحياء للخلافة أو إحقاق لحق أو تمجيد للدين في أطراف العالم الإسلامي. والدور الذي قامت به كل من هذه المدن كان يتمشى مع روحها: فدمشق نظمت امبراطورية. وبغداد نقلت العلم عن القدامى وعربته،وعمل العلماء فيها على خلق الفكر العربي الإسلامي. والقاهرة نظمت المذاهب الشيعية والإسماعيلية وجربت نشرها ومراكش أحيت السنة ووحدت المغرب العربي أشعريا. وفاس صفت العلم الإسلامي ونشرته في الربوع الإسلامية النائية.
أما قرطبة وتونس فلم تكونا مركزين كبيرين للعمل فحسب، بل كانتا منطلقا للمعرفة العربية والعلم العربي ينتقلان طبا وفلكا ورياضيات وفلسفة وكلاما وشعرا موشحا إلى أوربة عبر البرانيس إلى فرنسة وعبر البحر إلى إيطالية. وبلرمو حفظت حضارة العرب وثقافتهم مدة طويلة حتى بعد سقوط دولتهم، وبذلك مكنت للطب والفن والمعمار والأدب والمعرفة الجغرافية أن تحمل إلى أوروبة لا على أيدي زوار وتراجمة بحسب، ولكن بواسطة جماعات كبيرة تعايشت مع العرب وأفادت منهم.
المدينة العربية في العصور الوسطى كانت متعددة الأبعاد. ولا غرابة في ذلك فأبعادها – أفقيا وعموديا– مرتبطة بأبعاد هذه الحضارة والسياسة والثقافة التي عاشت فيها: في رقعة من الأرض عريضة ولفترة من الزمان طويلة.